المداولة هنا وبناء الدول مرتبط بالزمان لا بالمكان، فسيطرة الدولة على الزمان فيها عبقرية الحكم، أما السيطرة المكانية وحدها ففيها أسباب الحكم لا رقيه أو اتساع مجاله. العبقرية تكمن في تحريك المكان لا سكونه، تحريك يجعل للمكان امتدادا في الزمان، فالناظر إلى الدولة الأميركية الآن يلاحظ أنها دولة مثل كل الدول، لها حكومة وشعب وأراض ذات حدود دولية معترف بها، إذن هي في جوهر العلاقات الدولية وقوانينها لا تختلف عن دولة مثل زامبيا أو موزمبيق، هذا إذا ما اعتمدنا المكان كمقياس للقدرة.
أما إذا ما نظرنا إلى عنصر الزمان، فلن يجادل أحد مهما كانت توجهاته الفكرية، حول أننا في الزمن الأميركي. البعض يسمي هذا الزمن بالامبراطورية الأميركية، والبعض الآخر يسميه بالحقبة الأميركية، وهناك آخرون يقولون بالقرن الأميركي.. الخ، ويبقى أن كل المصطلحات التي تصف التمدد الأميركي هي مصطلحات زمانية وليست مصطلحات مكانية. أي الزمان دول، بمعنى التبدل، ولكنه يعني أيضا الدولة الزمانية القادرة على اختراق حدود المكان والتمدد في الزمان. لذلك عندما تحدثت مع صديقي في الرايستاج عن فلسفة الزمان والمكان، وعن عاداتنا في الصعيد التي تقسم الزمان لتغير ملامح المكان، كنت أود أن أعيده إلى حالة هو يعرفها.
كنت أحاول في اتجاه مغاير، وأذكره بأن حركته في المكان هي في حقيقتها جزء من تغيير الزمان، هي بوصلة في بناء الزمان الأميركي. كما ذكرته بأننا كمسلمين لا نعرف كلمة الفضاء، فالفضاء لدينا دائما ممتلئ، هو مكان يكون الله فيه إلى عبده أقرب من حبل الوريد، وكذلك يكون الله في كل شيء، فالكون دائما في حالة وجود، لا حالة عدم وفراغ.
المكان الإسلامي مكان حركة، يكون فيه السكون من أجل انطلاق. الثبات فيه ليس هدفا، «فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض». هذا يعيدنا إلى علاقة المقدس بالدنيوي. المكان المقدس هو تجمع من أجل انطلاق.. (الانتشار في الأرض). والانتشار هنا هو بناء لحركة المكان وتغيير لملامح الزمان. ولولا الانتشار في الأرض والحركة ما كانت هناك مكانة للمكان، فالمكانة تأتي من عنصر الزمان لا من المكان. المكانة هي سيطرة المكان على زمانه، ومن هناك تكون مكانة الدولة. مكانة الدول تتدرج حسب قدرتها على السيطرة على الزمان، فأميركا الآن دولة ذات مكانة أكبر من مكانة بريطانيا أو فرنسا، وذلك لأنها أكثر امتلاكا للزمان. فالزمان الفرنسي قد ولى، والزمان الامبراطوري الإنجليزي قد ولى أيضا، زمان الامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس.. وغروب الشمس وشروقها هما فعلان زمانيان وليسا مكانيين، الشمس والقمر علامات لتحديد الزمان، ولذلك هناك التاريخ الشمسي والتاريخ القمري اللذين أشرت إليهما سابقا.
الآن نحن في زمان أميركي، وكنا من قبل في زمان بريطاني، وكنا أيضا في زمان هيليني يوناني، وكذلك كنا في زمان مصري فرعوني. ومن هنا فإن القول بأن عبقرية مصر هي عبقرية مكان هو قول ناقص، فعبقرية المكان لا تفسر لنا غياب المكان. إذ كيف نفسر أن نفس المكان الذي أعطى رمسيس الثاني تمددا امبراطوريا، وكذلك أحمس وحتشبسوت، هو ذات المكان الذي شهد عصور الانحطاط والاضمحلال في عهود تاريخية مختلفة؟ المكان وحده لا يفسر الكثير عن المكانة، المكانة هي عامل زماني لا مكاني، رغم أنها مشتقة لغويا من المكان. لكن المكان المتحرك هو الذي يفعل في الزمان فيضفي على المكان مكانة، ففي الحركة طيب وإشراق.. وفي ذلك يقول الإمام الشافعي
إني رأيت وقوف الماء يفسده/ إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب.
وما ينسحب على الماء ينسحب على الدول، شريطة ألا يدخل العنصر الأساسي الذي يغير المكان إلى مكانة بالتفاعل مع الزمان. هذا الفاعل
هو العنصر البشري (الإنسان)، إذن المعادلة هي: زمان ومكان وإنسان. يبقى المكان جامدا واستاتيكيا (غير متحرك)، إذا لم يعافر فيه الإنسان وينقله بحركته من مكان إلى مكانة، يسود فيه زمانه على زمان غيره.
المشكلة في الحالة المصرية مثلا، أن المصريين بدأوا في ترديد مقولات معلبة كان المكان في معظمها هو العنصر الحاكم. فدونما نقد كرر الكثير منهم، حتى النابهون، مقولة أن مصر هبة النيل، وهي مقولة في الحقيقة تلغي إسهام الإنسان المصري، وتضعه في دور المتلقي لهذه الهبة من الطبيعة، رغم أن الأساس في هذه الهبة هو الطريقة التي تفاعل بها هذا الإنسان مع النيل وطور زراعته وطوع فيضانه.. إذن، مصر هبة أهلها وليست هبة النيل. لكن هيرودوت الذي أحب مصر ـ المكان ولم يحب مصر ـ الإنسان، قرر أن هذا الإنسان عديم الفائدة، وبذلك يكون كل ما هو مصري نتيجة لهذا النيل وليس لهذا الإنسان. وهذا سلوك نراه في كثير من الكتابات الغربية عن مصر، المكان فيها هو الأساس أما الإنسان فليس مهما. وإن قرر بعض المثقفين الغربيين أن يعترفوا بالإنسان المصري، فإنهم يفعلون، كما جون ونزبري الذي كتب عن مصر ناصر ومصر السادات، أي رغم نباهة الرجل إلا أنه اختصر المصريين في شخص ناصر أو السادات، وفي هذا اختزال مجحف بين.
لم تكن مقولة مصر هي هبة النيل، المقولة الوحيدة التي تركز على المكان، فهناك مقولة عبقرية المكان، أي الجغرافيا، وهي مقولة مختزلة أيضا، بل بدائية في أحسن أحوالها.. فجغرافيا المكان مهمة، لكن جغرافيا الزمان أهم بما لا يقارن.
فجغرافيا الزمان هي التي توجد المكانة المصرية، وكذلك تجعل من مصر عبقرية تفاعل زماني ومكاني، ولذلك رأينا عصورا عبقرية في مصر عندما تفاعل المكان والزمان بواسطة الإنسان بشكل جيد، ورأينا عصور انحطاط عندما ارتكزنا على عنصر المكان فقط وهمشنا الزمان والإنسان. أعتقد بأن ترديد هذه المقولات، التي تبدو في ظاهرها وطنية، هو خسران مبين، إذ لا بد من التركيز على النباهة التي توصل الزمان الروحي ـ بالزمان العولمي ـ بالمكان المصري.
فالمكان، حتى في المفهوم الإسلامي، هو مكان مرتبط بصفات محددة، والناظر إلى وصف القرآن الكريم لمكة مثلا، يرى فيه نظرية الأمن القومي للدولة الحديثة.. «ومن دخله كان آمنا»، فقيمة البيت ليست في جدرانه وإنما في أمنه وأمانه، أي في الأبعاد الأخرى للمكان، إذ لا بد أن تتوفر في المكان شروط أخرى ليكتسب أهمية ما، ولنأخذ مثلا على ذلك قوله تعالى: «فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف».. وهنا ترتبط العبادة بشرطين، أولهما أن يجد الناس ما يكفيهم من طعام، وثانيهما إحساسهم بالأمان وعدم الخوف. وفي رأيي أن العظمة الإلهية في تلك العلاقة التكاملية، فهي مدركة أن المكان يوفر لساكنيه الأمن الغذائي (أطعمهم من جوع)، ويوفر لهم الأمن النفسي أيضا (وآمنهم من خوف)، وعند توفر الشرطين تكون العبادة ممكنة. هذه العلاقة هي العلاقة المفترضة أيضا بين الحاكم والمحكوم، فعلى الدولة أن تضمن لمواطنيها الأمن الغذائي والنفسي.. ولكن لن يتوفر هذا إلا بعلاقة المكان بالزمان والإنسان، علاقة يجب أن يوسع الحوار حولها في إطار أكثر نقدا وأكثر شمولا، حتى لا نبقى في المكان ونخرج من الزمان.. ولذلك تفصيل وبيان في سياق آخر.
No comments:
Post a Comment