Thursday, July 17, 2008

الهدنة مقابل السلام

واضح أن الفلسطينيين ينزلقون من الموقف الأفضل إلى الأسوأ، ثم إلى الذي يفوقه سوءا، وهكذا تتدنى وتتواضع مطالب الفلسطينيين من قرار التقسيم الذي كان سيمنحهم نصف فلسطين؛ إلى أوسلو و«الأرض مقابل السلام» في عهد أبو عمار، إلى «الهدنة مقابل الكهرباء» في عهد إسماعيل هنية وخالد مشعل. فالفلسطينيون يهبطون على سلم المطالب بدل أن يصعدوا من سقفها، وليس هذا في فلسطين وحدها، فالناظر إلى نتائج (النصر الإلهي) الممول بـ(الدولار الطاهر)، يعرف أن جنوب لبنان الذي كان محررا لم يعد بعد حرب تموز كذلك، فقد أصبح اليوم تحت إمرة القوات الدولية التي تسيطر عليه وتبقي السيادة اللبنانية منقوصة على الأرض اللبنانية.

اليوم هناك سؤالان مهمان وهما: لماذا يثق الشارع العربي بـ(المقاومة) التي قادته إلى انتصارات كاذبة وخفضت سقف مطالبه حتى بلغ الفتات؟ ولماذا تهزم جيوش الدول العربية الرسمية في حروبها، بينما تنجح هذه (المقاومة) في الاستمرار؟

إسرائيل مثلا، هزمت ثلاثة جيوش عربية في ستة أيام عام 1967، بينما لم تستطع أن تهزم حزب الله بالشكل الساحق الذي هزمت به تلك الجيوش مجتمعة. أميركا أيضا هزمت الجيش العراقي النظامي ولم تهزم المقاومة العراقية. السر يكمن، ليس كما ادعى بعض الغربيين، بأن دولنا هي «قبائل بأعلام» ((tribes with flags، وإنما يكمن في عدم قدرة دولنا على أن تكون لها أعلام تحترم ويؤمن بها كافة أطياف الشعب الواحد، فقسم كبير من الفلسطينيين اليوم يرفع علم حماس لا علم سلطتهم الوطنية، ومجموع كبير من اللبنانيين والعرب اليوم يرفعون علم حزب الله لا علم دولتهم. يؤكد هذا حقيقة مؤلمة وهي أننا، كعرب، غير قادرين على الانتماء لدولة حديثة، باستثناءات قليلة جدا، فنحن قوم لا نستطيع الانتماء إلى شيء أكبر من العشيرة، سواء أكانت هذه العشيرة تجمعها عصبية الدم أو الآيديولوجيا. وإلا كيف يفهم أن يصبح أقصى فضاء سياسي نسبح فيه هو فضاء إمارة حماس، أو جنوب لبنان، أو الأنبار أو البصرة.. حتى أن كثيرا ممن هاجروا منا إلى الغرب، رغم ما يتميز به بعضهم من علم، غير قادرين على الانتماء لدولهم المتبناة التي ذهبوا إليها بملء إرادتهم واستماتوا للحصول على جنسياتها، فهم إما جزء من أمة إسلامية كبرى أو جزء من حمولة في عشيرة أو قبيلة، هم لا يقدرون على الانضواء تحت مفاهيم الدولة الحديثة والمواطنة، فإما أن يحلقوا فوق الدولة أو يتسربوا من تحتها.. وليس خافيا على أحد أن العديد من أعضاء الحركات الإسلامية (المناضلة) في العالم العربي يحملون الجنسية الأميركية والبريطانية، فقط يستخدمون هذه الجوازات لتسهيل مهماتهم.

يحدث كل هذا أيضا لأن معظمنا لا لون لنا، يحب أن يسبح في درجات مختلفة من اللون الرمادي، لا يمكن له أن يكون أبيض أو أسود، هو رمادي فاتح، ورمادي غامق، ورمادي أغمق.. الخ. فهم مع «الحوار» ومع «المصالحة» وكل الكلام «إللي ملوش لازمة».. لا مواقف تتخذ في المعارك التي تحدث في مضارب عبس، فقط تمتشق الحناجر المناضلة عند التحدث عن الغير.

وصلنا لما نحن فيه، لأننا نكذب على أنفسنا ونبني استنتاجات على الوهم.. كذبنا على أنفسنا وقلنا لأجيال كاملة بأننا انتصرنا على بريطانيا وفرنسا وإسرائيل دفعة واحدة عام 1956. فلم نبن جيشا بعد هذا لأننا الأفضل ولأننا منتصرون.. عشنا نشوة النصر المتوهم من 1956 إلى 1967، ثم أفقنا على الهزيمة الكبرى.. إذن بذرة هزيمة 1967 زرعت فى كذبة نصر 1956. بنفس الطريقة يمكنك توقع هزيمة أخرى، لأننا زرعنا كثيرا من بذور الكذب يوم (النصر الإلهي). وعندما تواجه أحدهم بهذه الحقائق، يرد عليك بعبارة الشوارع المصرية: «إحنا إللي بهيظنا الفهايص»، وهي عبارة يطلقها الشباب اليوم بعد خراب كل شيء، ويعني بها المتحدث «أنا الذي جعلت الجميع يغيب عن الوعي». وبالفعل كما يبدو نحن قوم مغيبون عن الوعي، وإلا فكيف تدهور حالنا وانحدرت مطالبنا من التقسيم في عام 47، الذي كان سيمنحنا نصف فلسطين، إلى أوسلو و«الأرض مقابل السلام»، إلى ما نحن عليه اليوم من معادلة مخزية هي «الهدنة مقابل الكهرباء»؟!.

وفي سياق الحديث عن الكهرباء، أسرد نكتة فحواها أن رجلا نبه صديقه إلى أن امرأته تخرج من وراء ظهره مع «الواد سمير الكهربائي»، وتوقع الرجل أن يصبح صديقه ثورا هائجا وغضنفرا مكشرا عن أنيابه، لكنه فوجئ بأن الرجل ظل هادئا ومبتسما وقال له: «أنت رجل كذاب، سمير دا لا كهربائي ولا بيفهم في الكهربا».. وهذا بالطبع مقال مكتوب فقط «للي بيفهموا في الكهربا».

معركة محتملة

في العالم الغربي، تركب التاكسي لتنتقل من النقطة (ألف) إلى النقطة (باء)، تدفع ما يظهر على عداد التاكسي ثم تنزل إلى حيث تريد من دون حوار وأخذ ورد، تقرأ صحيفتك وأنت في المقعد الخلفي أو تقوم بإجراء بعض المكالمات الهاتفية فلا يزعجك السائق ولا تزعجه، هو يؤدي عملا نظير أجر وأنت تدفع الأجر، وإذا ما تعقدت الأمور فهناك قانون واضح يفصل بينكما.

أما في بلداننا، فتركب التاكسي طالبا من السائق أن يأخذك من منطقة إلى أخرى، يقول لك: «هو في الحقيقة مشوارك مش في طريقي، لكن عشان خاطرك سأغير مساري».. إذن ومن أول جملة هو يتكرم عليك بالتوصيلة وليس عملا نظير أجر، وما يتبقى لديك سوى أن تقدم له «التشكرات»، وما أن تصل إلى مكانك حتى تطلب منه أن يقول لك كم الأجرة، لأنه ببساطة لا يوجد عداد في التاكسي أو لأن العداد لا يعمل أو لأن العداد قد وضع في مكان لا يمكنك رؤيته، فينظر إليك ليقول «كلك نظر وانت شايف أسعار البنزين وارتفاع أسعار البترول في الأسواق العالمية، والعولمة، وحوار الحضارات، والدنيا الحر إللي إحنا فيها، واحتمالية الحرب في الخليج، وأنا باجري على كوم لحم»، أي عدد كبير من الأطفال. ثم تقدر سعر المشوار وتدفع له ورقة بنكنوت، متوقعا منه أن يعطيك ما تبقى لك، ينظر إليك ثم يقول بامتعاض شكرا، أي أن هذا أقل مما هو مطلوب ومع ذلك سأقبله.. وأنت تعرف تمام المعرفة أن هذا أكثر بكثير من تسعيرة المشوار، فيغلي دمك، وفجأة يتحول حديث التعاطف والود الذي جرى بينك وبين السائق حول الغلاء والحروب وظلم الحكومات، إلى مشاجرة بينك وبينه. الفارق بين الشرق والغرب هنا، هو أن في الغرب قانونا يفصل بينك وبين السائق، أما في بلاد الشرق فالأمور كلها ضبابية، أمور لا تتحرك في مساحات الأبيض والأسود، أمور كلها رمادية لا يفصل بينك وبين خصمك فيها سوى المارة أو الضغط الاجتماعي والشعبي، أو أن تتنازل عن حقك تماما وتمشي، أو تدخل في معركة لا تعرف إن كنت ستكسبها أم لا!

أما مطاعمنا فهي قصة أخرى، إذ تدخل مطعما فيأتيك النادل المهذب ويعطيك قائمة بالأطعمة التي تتفحصها أنت وأصدقاؤك، وربما بعد مشاورات طويلة، يتفق البعض على أن طبقا ما هو يمثل الوجبة التقليدية للبلد الذي تزوره، ثم يأتي النادل فتقول له نحن نريد كذا فيجيبك ليس لدينا هذا الطلب، تقول مستغربا: ولكنه مكتوب في «المنيو» أي قائمة الأطعمة.. وتدخل مع النادل في حوار عقيم حول لماذا هو موجود في القائمة إن لم يكن موجودا في المطبخ؟. وبعد الحوار يفرض عليك النادل مجموعة ما عنده من وجبات لكي تختار منها وهي لا تمثل ربع ما هو موجود في «المنيو» أو خُمسه، ويحاول أن يقنعك بأن تأكل ما لا تحب وتجد نفسك لحظتها في احتمالية معركة. أما إذا ما كان هناك نقاش مفتوح أصلا بينك وبين أصدقائك على طاولة العشاء أو الغداء، فإن النادل لن يتردد أبدا في أن يدخل طرفا «ساخنا» في الحوار بينما هو يرص صفوف الحمص والفول من فوق الرؤوس، ويدخل بشرح طويل حول الظروف الاقتصادية والصراع العربي الإسرائيلي ومقتل الحريري وقضية مزارع شبعا، لتضرب أخماسا في أسداس محاولا أن تفهم علاقة السلطات بمزارع شبعا، إلا إذا كان الخضار يأتي من تلك المزارع! ومحاولا أن تفهم ما هي علاقة عدم وجود ما هو مكتوب في قائمة الطعام باغتيال الحريري!

ويا ليت القصة هي قصة معركة محتملة مع النادل في المطعم فقط، فالمعركة محتملة مع ضيوفك أيضا. خصوصا إذا ما تطرق الحديث إلى ما يمكن تسميته بالتخندق الاجتماعي، أي إذا تخندق البعض في الخندق الناصري، أو القومي أو المناصر للحق الفلسطيني، وكأن الجالسين الآخرين على الطاولة هم وفد إسرائيلي! وقد يعلن أحد الضيوف بسذاجة أنه رافض للتطبيع، في الوقت الذي لا نعرف فيه من يمتلك الأسهم الكبرى في الشركات العابرة للقوميات، أو الشركة القابضة لسلسلة الفنادق العالمية التي يتمتع فيها صاحبنا بشرب الشيشة في أحد مقاهيها التي سبغت عليها الصبغة المحلية. نتحدث عن التفاصيل الصغيرة للتطبيع ولا نرى الفنادق والبنوك وشركات الطائرات وناقلات البضائع ومالكي ومصنعي الكمبيوترات والتقنيات.. سذاجة إذا ما أردت الحديث عنها، وجدت نفسك بلا شك في معركة محتملة.

لماذا نحن دائما بصدد تلك المعركة المحتملة؟ ظني أن «المعارك المحتملة» هي مفهوم مرتبط بالمجتمعات المهتزة التي يفتقد فيها الأشخاص الثقة بالنفس وبالمعلومة وغياب الحاكم القانوني الموثوق. فليس لدينا في عالمنا العربي حكم يفصل في الأمر إذا ما كانت المعلومة المطروحة صحيحة أم خاطئة. لدينا فكرة الغلبة، أي أن رأي الأغلبية هو الذي يسود، حتى لو كانت هذه الأغلبية مجموعة من الجهلاء، أي أن العلم «بالدراع»، أو بعلو الصوت، أو بتكرار الظهور على الشاشات والإذاعات.. ولا توجد جهة علمية متخصصة أو قانونية موثوق بنزاهتها أو اجتماعية تحترم حرية الفكر والفرد لتفصل في أي خلاف إن وقع، ولتبين الحق من الباطل، إلا في إطار الفتاوى الدينية، وحتى تلك فهي ملتبسة وكثير منها يتبع السياسة والهوى أيضا.. وهل يمكننا تجاهل أن العديد من الفتاوى الدينية صدرت بالصوت العالي، أو بفوهة البندقية، أو بـ«الدراع»؟.