Friday, March 7, 2008

عن العالم العربى

ربع العالم العربي تقريبا، تشتعل فيه النيران من حرب أهلية في السودان وأخرى في العراق وثالثة في الصومال، إلى حروب أهلية وشيكة الحدوث في لبنان وفلسطين، وأخرى مزمنة في الجزائر مازالت تشتعل تحت الرماد. ربع آخر من العالم العربي يتأهب للدخول في عداد الدول الفاشلة، ولم يبق سوى مجموعة دول، تعد على أصابع اليد الواحدة، ما زالت متماسكة (وربنا يستر!). رغم انه من الواضح للعيان أن البيت سينهار على من فيه، إلا أننا ما زلنا نهرب من واقعنا الحاضر باستدعاء شعارات تطمئننا بأننا سليلو حضارات عظيمة، وأن كل مصائبنا تأتي من الغرب، ومن أميركا على وجه التحديد. فلنتفق على أن سياسات أميركا ظالمة، وربما طائشة، الأمر الذي أكده تقرير بيكر ـ هاملتون . ولكن هل اخترعتنا أميركا، نحن أحفاد الحضارات العظيمة المتناحرين بين بعضهم حتى الموت؟

تقرير بيكر ـ هاملتون الذي شغل البلاد والعباد، جهد أميركي خالص ونقد ذاتي داخلي يهدف إلى لملمة جراح الأمة الأميركية المنقسمة حول حرب العراق. لن أدخل هنا في تقييم التقرير الذي يستحق مقالا خاصا، لكن ما يهمني في هذا السياق، هو متى سنقدم نقدا ذاتيا لأحوالنا؟ لدينا الكثير من المواضيع الخلافية التي لا تهدد بانقسامنا فحسب، بل بفنائنا كأمة، ومع ذلك نواجهها بدل الدراسة المتأنية التي تهدف إلى إيجاد مخرج وحل، بخطب حماسية (في لبنان وغيره) في كل منبر تظن أنها ستغطي عين الشمس بغربال!

في مواجهة أخطار تهدد بفنائنا، يتغنى أبناء هذه المنطقة بكونهم أحفاد الفراعنة، وأحفاد البابليين ، ويفخرون بأنهم أحفاد الفينيقيين والكنعانيين. يحار المرء فعلا بين ما يرى وما يسمع، بين الخيال والواقع، بين ماضي الافتخار وواقع الاحتقار. إذا كنا بالفعل أبناء هذه الحضارات، فمن أين أتى العراقيون الذين يفجرون الدور والمساجد على رؤوس أهلها، ويحرقون مدارس الاطفال في كافة أنحاء العراق؟ ومن أين أتى اللبنانيون الذين يخون بعضهم الآخر على شاشات التلفزة وفي الساحات والدارات، والمنابر العامة والخاصة، والذين خاضوا حربا أهلية مرة ولا يبدو أنهم يتورعون عن خوضها ثانية؟ يحذر كل زعيم فيهم من فتنة طائفية، وما هم إلا زعماء طوائف، الفتنة في لبنان قائمة وليست نائمة، ربما كان وجود لبنان مرهونا أصلا بالفتنة (الطائقية وغيرها). ومن أين أتى هؤلاء الفلسطينيون الذين يقف كل منهم على سلاحه بانتظار الانقضاض على الآخر؟ ومن أين أتى الجنجويد وصناع الموت في السودان؟ ومن أين أتت الجماعات الإسلامية المسلحة التي كانت تذبح الأطفال في بلد المليون شهيد؟ بالتأكيد لم يأت هؤلاء جميعا من الفضاء.

سلّمنا مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش بأن «الشر كله يأتي من أميركا»، في قصيدة صفق لها الكثيرون، ونسينا أن «دود الخل منو فيه». نعم، أميركا هي التي أتت بالجند والسلاح إلى العراق، وهي التي تعبث أياديها في الشأن الفلسطيني واللبناني. ولكن هل أميركا هي التي أتت أيضا بالبشر الذين يأكل بعضهم البعض في العراق ولبنان وفلسطين والسودان والجزائر والصومال؟ ذات البشر الذين ما زالوا يتغنون بأجدادهم المؤسسين للحضارات العريقة، هم لا أحد سواهم، الذين يتحفوننا اليوم بأبشع صور التناحر الهمجي بين أبناء الوطن الواحد، وننام ونصحو معهم على شبح حروب داخلية ستشعل المنطقة بأكملها.

في العراق، أميركا أخرجت المارد من قمقمه، لكنها لم تخترعه، المارد كان قابعا هناك ينتظر لحظة الانفلات. العراقيون كلما واجهتهم بالطائفية الدفينة التي تخيم على سمائهم كغيمة سوداء تمطر موتا، قالوا إن عراق بلاد الرافدين لم يعرف الطائفية الا بعد دخول الأميركيين. هل حقا ان العراقيين لم يسمعوا بالطائفية قبل الغزو الأميركي، وأنهم كانوا متصالحين مع تاريخهم، ومتجاوزين للمحن الدموية التي مروا بها؟ هل حقا ان إعلان الولاية في غدير خم ومشاورات السقيفة، الحدثين المفصليين في صدر الإسلام، قد أشبعا حوارا وفهما مشتركا بين طائفتي العراق الكبريين، وتم تجاوز ظلهما الثقيل، ليس على العراق فحسب، بل على المنطقة بأكملها؟ هل حقا ان الشيعة في العراق، والمنطقة عموما، ليست لديهم رغبة في تغيير مسار الدول والأيام باتجاه ما يرونه حقا لهم قد اغتصب؟ ألم يقل الخميني يوم انتصار ثورته: «عدت لأصحح التاريخ»؟

إن أصل المشكلة في العراق يكمن في الماضي. وهذه النزاعات التي اتخذت هيئة إشكاليات معقدة لم تحل، ظلت تنمو كفطريات وطفيليات تحت صخرة ديكتاتورية ألقى بها النظام السابق على صدر العراق، وعندما أزيحت هذه الصخرة انتشرت رائحة العفونة والرطوبة، وطفت على السطح ضغائن المذاهب التي يرى كل منها أنه يمتلك الحق والحقيقة. وهناك صخور كثيرة في المنطقة، إن تحركت ربما شممنا نفس العطن، وأطلت من تحتها رؤوس ذات الأفاعي.

الديكتاتوريات والأفكار الشمولية الكبرى تلون المجتمعات بلون قاتم أوحد، تخفي الاختلاف ولكنها لا تلغيه. وكلنا يعرف ما ظهر بعد انهيار الشيوعية من تناحر إثني في الدول التي كانت تنضوي تحت هذه الايديولوجية الكبيرة. أراد صدام حسين أن يغير الطبيعة السكانية ـ الجغراقية للعراق، بإجباره عراقيين عربا شيعة على العيش في الشمال الكردي، وبالمقابل تهجير بعض الشماليين إلى الجنوب المختلف عرقيا ومذهبيا. محاولة ساذجة لطاغية ساذج لإخفاء الاختلاف. وكان أول ما طالب به المهجرون من كلا الاتجاهين، بعد سقوط نظام صدام، العودة إلى أماكنهم الأصلية. لم يقف أحد في وجه صدام، لأن الديكتاتوريات أيضا تعلم مواطنيها الكذب ولي الحقائق والهروب من الواقع حتى لا يجدوا أنفسهم في مواجهة السلطة. العقل الديكتاتوري عقل ملفق وكاذب، وفضائياتنا نتاج مباشر لهذا العقل الكاذب. الحقيقة هي أن الأميركيين لم يختلقوا الدراما المعقدة التي تشكل البركان الكامن في ماضي العراق ومستقبله، ولم يختلقوا كذلك الضغائن والأحقاد والرغبة في إلغاء الآخر المختلف في بلادنا. هم فقط أزاحوا الصخرة، لم يتوقعوا حجم العفونة التي تنتظرهم تحتها، وهنا يكمن خطأهم الذي لا يغتفر. تغيظ المرء في لبنان مقولات مثل: «لبنان بلد صغير يتعايش فيه أكبر عدد من الطوائف»، أو: «لبنان بلد ديمقراطي». إذا كان الأمر كذلك (يا جماعة)، فلماذا لم نركم متعايشين منذ ما يسمى بالاستقلال؟ ولماذا تحتاجون في كل مرة لجولات دبلوماسية وشخصية وأمنية، وسفارات، ووصايات، ومؤتمرات مصغرة وموسعة، واتفاقات منفردة وثنائية وجماعية، وجيوش تدخل وجيوش تخرج؟ ولماذا ما دمتم رمز التعايش، لديكم بيروتان بدلا من بيروت واحدة، وتقطن الجبل الطائفة الفلانية، وتسكن الضاحية الطائفة العلانية، وكل في فلك يسبحون؟

الذين يبحثون اليوم عن مستقبل لبنان، معتصمون أمام السراي الحكومي، لإسقاط الحكومة، لهم كامل الحق في التعبير عن عدم رضاهم. ولكن لنفترض أن هذه الجموع أسقطت حكومة السنيورة، ترى ماذا ينتظر لبنان؟ إذا أراد اللبنانيون رؤية المستقبل فلينظروا جنوبا إلى حكومة «حماس» المحاصرة دوليا، وما يعانيه الفلسطينيون من مقاطعة المجتمع الدولي لها، حتى باتت رواتب الموظفين تدفع كحسنات من قبل بعض الدول العربية. وبدورها إذا أرادت «حماس» أن تعرف ما ينتظر الفلسطينيون في القريب العاجل، إذا ما أصرت على ابتعادها عن الممكن والمعقول، والنحو اتجاه التخوين وحشد الغضب والحقد بين أبناء الشعب الفلسطيني، فما عليها إلا أن تيمم وجهها شطر العراق، فهناك يكمن المستقبل.

المستقبل لا يأتي من الهواء. مستقبل المنطقة مرتبط بماضيها، وما لم تحل عقد الماضي، فإن حبل المستقبل لن يستقيم. مستقبلنا يأتي منا. البشر أيضا لا يأتون من الهواء، ولا على دبابات أميركية، فأبناء هذه المنطقة المتناحرون حتى الموت، هم منا.. ابن لادن والظواهري والزرقاوي منا. صدام حسين ومقتدى الصدر وحارث الضاري منا. المالكي وطالباني والحكيم وعلاوي منا. سعد الحريري وحسن نصر الله وميشيل عون والسنيورة منا. بيير الجميل وجبران تويني وسمير قصير منا. الترابي والغنوشي وبلحاج منا. اسماعيل هنية ومحمود عباس وخالد مشعل ومحمد دحلان منا. هؤلاء البشر منا. وهذا الماضي الذي يمسك بعنق الحاضر، منا. الأميركان قد تأتي منهم شرور كثيرة، لكن ليست تلك التي تنبع منا. الأميركان لم يخترعونا، هم فقط نزعوا عنا سدادة القمقم، وقمنا نحن أبناء هذه الحضارات القديمة والعظيمة بكل هذا القتل وكل هذا الدمار